


« غدج أمول بانكاس » مثل شعبي بلغة الولوف يعني « البحر لا يوقفنا ».
وهو أيضا عنوان مجموعة من الفيديوهات صورها عمر با في طنجة عام 2015. عمر مهاجر سينغالي في حالة عبور لا يتذكر هو نفسه مدتها (ربما عشر سنوات) في حدود المدينة الموجودة في شمال المغرب. في سياق الهجرة، يمكن أيضا أن نترجم هذا المثل بتعبير ٱخر «السخرية من التيار»1.
حيث يترجم بدقة ضرورة الهجرة إلى إسبانيا المجاورة بأي ثمن، والتي يعيشها الشباب السود وهم يهيمون في شوارع طنجة. أمل عبور مضيق جبل طارق يوجد بالنسبة إليهم في كل النقاشات، وكل الرؤوس، وكل الأجساد، وكل الأحلام؛ حيث الحدود الغير مادية هنا تشيد ب «الممكن» في هاوية فضاء يحرف كليا الإجراءات القانونية، ويتلاعب فيه العسكريون بالمهاجرين، والمهاجرون بالإتفاقيات السياسية. كل الشروط موفرة لدفعهم إلى العبور في أقسى الظروف. يتواجد ميناء طنجة المتوسطي الذي قام ب «خوصصة الحدود» على بعد عشرات الكيلومترات من وسط المدينة، مما أجبر المهاجرين على العبور بالجذف على قوارب مطاطية. فإذا ركبوا قوارب بمحرك سيصبحون مهربين (حراقة) وسيُحبسون قبل إرسالهم إلى بلدانهم الأصلية.
إلتقيت بعمر با في ميناء المدينة، وتخيلته كشخصية روائية بصوته السينمائي وهيئته ونظرته المخفية وراء نظاراته السوداء (نوعا ما مثل بطل فيلم كريس مراكر « رصيف الميناء »). كان يبدو مستعدا ليحكي لي قصص عبوره وفرض نفسه بسرعة كالشخصية البطولية التي كنت أبحث عنها2. في تلك اللحظة سيصبح عمر، إذا وافق، الشخص الذي أقترح عليه التحكم بالوثائقي، حيث ما يهمني في هذه التجربة كان هو إنتاج سرد معاكس واستكشاف طرق جديدة لإدانة واقع الهجرة بإعطاء المسمى ب « مهاجر » فرصة إخراج فيلمه الخاص، بهواتف محمولة كوسيط بيننا. إستعارة عنوان فيلم عمر با توحي أولا بهشاشة مصير شخص من بين الآلاف أمام استحالة عبور البحر. في هذه الظروف، تصوير لحظات من حياة المهاجرين اليومية في طنجة بهاتف محمول كان أيضا وسيلة لإعادة النظر في حقل حنيني واسع للبحر الأبيض المتوسط كجسر ثقافي، تتصادم فيه بوادر حسن الضيافة مع عوالم تاريخ ما بعد الإستعمار، بل وحتى مفهوم « الٱنديجين » الذي يستحضره عمر في نهاية لقائنا. لأن البحر الأبيض المتوسط هو أيضا بؤرة توتر « مكان افتراق تخترقه معايير سلطة وهيمنة منذ فترة الإستعمار »3.
في طنجة، تنظيم العبور من طرف شباب جنوب الصحراء يمكن من هدم منطق شخصيات المنفى كضحايا حنينية ثابتة في التاريخ. كيف يجمع هؤلاء الشباب والشابات النقود الكافية لاقتناء قارب مطاطي وأغراض أخرى للعبور، كمضخة هواء ومناظير، وصنع مجاديف من خشب وعوامات إغاثة يدويا. أدوات مقاومة حوّلت سرد المتوسط إلى مجموعة من التناقضات الخارجة عن الرسمية.
مراسيم هذا النوع من السرد، ألا وهو الطلب من المهاجر أن يخرج فيلمه الخاص، كان يمكن أن يؤدي إلى نوع من الإلتباس. ما هو دوري كفنان وما هو موقفي إزاء عمر؟ كيف يباع ويشترى هذا الطلب الوثائقي؟ هل يجب على علاقة الفنان والمهاجر أن تكون واضحة في الفيلم؟ كيف نترجم حقيقة الصور عندما يأتي الأداء لدفع صور مسبقة حول الموضوع أو الشخصية (عندما نرى عمر يرقص ببدلته مثلا وهو يحسب نفسه ممثل استوديو)؟ هذا الفيلم يخاطب من؟ مالك؟ « البيض »؟ المتحف الذي يذكره في أحد الفيديوهات؟
استكشاف شعائر التجوال في سينما لها حدود، بل وفي « سينما حدود » هو أيضا إنتاج حقل بحث بالكاد يمكن إدراكه للهروب من أحكام الصور ومظاهرها الواضحة. يجب بالتالي خلق فضاء يوحي بجيوسياسية عمل المهاجر ويمكّن من تشويش المراجع المكانية حول الحدود، بالإضافة إلى بناء « أرضية » تقود إلى قراءة هذه التجربة ككتابة مصير مشترك.
المعادلة بيني وبين عمر، وأعني بذلك اللقاء بين ابن مهاجر يعود إلى المغرب ومهاجر يحاول الهروب منه، أنتج هذا الحقل الدلالي الذي مكن من تعزيز العلاقة (عبر التعاطف والروابط) بينما استعجل مواقف أنتروبولوجيا أكثر كلاسيكية.
مع توالي مواعيدنا مثلا في ساحة سوق برا في طنجة، أدركت أن عمر كان يستعمل الكاميرا كأداة إعادة تعبئة لمشروع هجرته. كنت أرى ذلك في مجموعة من المشاهد المصورة التي كان يوجه فيها الكاميرا نحو نفسه (مشهد جواز السفر ومشهد صنع العوامة)، ويستدعي سكان « مكانه » ليُعلم ليس عن تقنية واستعدادات العبور فحسب (ما كان موضوع طلبي)، بل أيضا وبالأخص ما يعنيه « الوجود في العالم » بالنسبة لمن يهاجر. في نفس الوقت، كنت أفهم بدون أن أفهم بالضبط بأنه كان يتموضع أكثر كمُنقل (أو زعيم) يعد رحيل الٱخرين بدون الكشف عن نواياه. وبالتالي إذا كان قد وافق على المشاركة في هذا المشروع فذلك لأنه لم يكن قادرا جسديا أو نفسيا أن يعبر المضيق. أنا وعمر نتشابه في كوننا نضع استراتيجيات لتفادي نوع من عنف الواقع المعاش (حتما متعلق بأثر ما بعد الإستعمار الذي نحس به)، ويعتبر كلانا « وسيطا » يسهل سرد قصص.
في هذه المرحلة من البحث، إلتقيت في المغرب بعالمة الإجتماع وأنتوربولوجيا الهجرة صوفي بافا، وتبادلنا العديد من الأشياء بسرعة حول مسارات ومغامرات المهاجرين السينغاليين. حواراتنا أدت بعد ذلك إلى مشروع مشترك في طور الإنجاز حول « أغراض الهجرة » وفي ميادين مشتركة بين مرسيليا وطنجة. نظرتها وكتاباتها حول « الأزمنة الطويلة » المتعلقة بالهجرة مكنتني من أن أفهم أكثر من قبل الأسباب التي جعلت عمر يوافق على صفقتي، أو أن أردك أهمية التمسك في أيام المنفى بقيم أكثر قوة: التشبث بالدين له مكانة أساسية، كما هو الشأن بالنسبة لروابط الصداقة.
بينما كان عمر يعطيني أفلامه، كان يستعرض أيضا أغراض رمزية أخرى يرسلها إلي. وبالتالي وجدت نفسي أجمع سبع مجاديف من الخشب، وبرميل للوضوء (كان فيه مزيج من الماء وسورات من القرآن مكتوبة بحبر مخفف والعطر الذي أرسلته له أمه من داكار إلى المغرب بواسطة مهرب)، وكتيب قرٱني، ورسومات للحدود، وصندل طفل، وقطعة قماش. عدة أغراض وقاية ترافق الٱن تركيب هذا العمل في المتاحف (الصندل يوضع تحت فراش المهاجر لأنه يجلب الحظ السعيد، والمجاديف مباركة من طرف مربوط الهجرة الذي استعرضه أحد فيديوهاته). طريقة هيكلة قصة ذاتية ونقل الأغراض هته مذهلة للغاية عندما نعرف مساءلات المتاحف بشأن « تصفية الإستعمار » وإعادة الأغراض الطقوسية إلى البلدان الإفريقية. ماذا يصبح الغرض عندما يتم نقله؟ وما هو الخطاب الذي ينتج عن استعراض « المهاجر » نفسه وليس المتحف لهذه الأغراض؟
عمل عمر يكشف على استحالة التفريق بين المكان والزمان والأغراض، لأن الأماكن لا توجد إلا في زمن معين وتحييها أغراض نستدعيها، ثم تختفي في نفس الوقت الذي تختفي فيه الروابط الإنسانية التي نُسجت فيها وأنتجتها لتجعلها نادرة. في الواقع، إستراتيجية الكشف هته التي يستعملها عمر عبر الأغراض والأفلام تمكن من إدراك أنه في أزمنة الهجرة الطويلة، يصبح التوقف والتباطؤ (حمل كاميرا، سرد قصة ذاتية، ربط علاقات) بادرة سياسية تستحضر زمانية جديدة. زمن السرد الجديد هذا سيمكن عمر من التراجع لتحليل البعد الملحمي لرحلته.
من النادر أن نرى مهاجرا ينظر خلفه أو يحكي عن نفسه بنفسه، وربما بالأخص بالنسبة إلى شباب جنوب الصحراء الذين نادرا ما تصل إلينا صورهم، بعكس المهاجرين السوريين مثلا الذين غمروا شبكات التواصل الإجتماعي بمرورهم بمسارات قاسية وعنيفة بنفس الدرجة.
ما نستقبله من عمر با في هذه التجربة الإنسانية هو مدى اتساع مفهوم جغرافي جديد، خريطة عالم « موازي » تُنتَج فيه معايير الهجرة والحركة ثم التجذر من جهة، والتوتر الذي مازال يمتلكنا جراء التاريخ الإستعماري، أماكن تعتبر صدى توحي فيه ترقيعات وتجاورات السرد في أقاصي الغرب بأن هته التحركات لا يستهان بها. بل بالعكس، بعد اقترابي من عمر خلال بحثي الذي دام خمسة أشهر، تأكدت بأنه من العمل الذي قام به تتدفق ميثولوجيا جديدة لا يعاد فيها اختراع العالم القديم إلا من خلال اختبار الهجرة.
القدرة على أن تكون « الٱخر » ظرف في سياق الهجرة يُخرّج من خانة المهاجر. لأن هذه الفضاءات المسماة بأماكن « العبور » هي أيضا وبالأخص « فضاءات للحق في العيش ». لكن لا بد من دعم ٱليات بحث وإنتاج تمكن المهاجرين المغامرين من أن يصبحوا فاعلين في مجال الحقوق. تحول سلم المهيمن والمهيمَن عليه في مراحل هذا البحث الاستراتيجية يمكن من التفكير في الهجرة ليس فقط كالساحة الجديدة للمواطنة، بل أيضا كأداة تَرقُبٍ للعالم تتغلب بدون عقد على النقاشات الفكرية حول « إصلاح » هذا الأخير. عندما يتحدث عمر با معي عن « جسر البيض » 4 بينما يفكر أنني سأستعين بذلك الجسر لأعبر إلى أوربا، يعبر عن مديونية عدالة لا يكافئها إلا بناء شرعية لخطابه على العالم. هذا النَفَس الفلسفي يعتبر اقتحاما في التقارير الأنتوروبولوجية التي نمتلكها نحن الفنانون والباحثون، أمام الطرق التي نستعملها لكتابة التاريخ ولجمع عناصره.
يجب علينا أن نحدد سلسة مسؤليات كاملة تجاه عنف ما بعد الإستعمار لكي نفهم أخيرا التجمعات والبنيات الموجودة في « تحرك » مستمر، والتي تنتج، حسب فهمي، نظرة جديدة لخطاب نشر الحضارة. حيث إذا كان مفهوم « الأوديسي » الملحمي لم يعد يشكل جزءا من لغة المهاجر، فذلك لأن الأمر يتعلق أكثر بتخيل لأوربا جديدة قد استنفدت ما يمكن أن تحكيه لنفسها وبالتالي تحمي نفسها وراء أبطال ملأهم الغبار. يجب إذن، كما قالت صوفي بافا « البناء مع هذه الإفريقيا المتوسطية » التي تصنع الآن عالم الغد.
في الواقع، المبادرة الإنسانية هي التي تمكن من إدراك موضوع الهجرة وفتح باب الأنتروبولوجيا الصغيرة لرؤية الأشياء باعتبار أن « المهاجر لا يرى الأشياء مثلنا ». وانطلاقا من هذه النظرة قد نغير المحتويات والكليشيهات حول الهجرة. لا أحد يتكلم عن التجذّر، والأزمنة الطويلة، والرمزية، والأغراض، رغم أنها تشير إلى افتراضات جديدة : نظام، وتبادل، وصفقات، وذهاب وإياب، وزيارات، وحتى إعادة بناء للعناصر المكانية والدينية. ما سوف يصبح مصدرا لبناء منهج فكري لن يكون ما تكشف عنه الهجرة، بل ما يسمح لنا المهاجر بلمحه. وتاريخ الهجرة هو أولا وقبل كل شيء « تاريخ الأفكار »؟
يمكّن تحليل الهجرة في أزمنة طويلة من التخلص من فكرة الغزو أو الإنتهاك. الأسئلة التي تطرحها الأرضية المغربية عن الهجرة الحديثة تكشف عن العصرية المدهشة لهذه الأخيرة.
1: مصطلح مقتبس من معرض قدم في جي دي بوم، في 2015. إيرين غليسون، أمينة معارض وإحدى مؤسِسي سا سا باساك الموجود في فنوم بين. « السخرية من التيار » تعبير أتى من مَثَل كمير. أينما تواجدنا، يجب ملائمة أعمالنا مع الوضعية. هذا المثل يذكرنا بوجود رافعة قديمة جدا تمكّن من التأثير على الوعي الجماعي : التعبير الفردي.
.
2: عام 2015، كان مالك نجمي في إقامة بحث بمعهد الدراسات المتقدمة l’IMéRA مرسيليا. أنتج بحثا بين الفن وعلم الإجتماع بإسم : « العبورات المُسيَّرة ذاتيا في مضيق جبل طارق : حالة عمر با ». أنتج خلاله سلسلة من الأفلام السرية. هذا التبادل للأفلام والأغراض مكّن من صنع عمل تركيبي معروض في ليبزيغ، متحف غراسي، وهو. حاليا بعنوان : « أغراض موجودة، جنات مفقودة »، في إشارة إلى كتاب جان جامين حول مهمة داكار جيبوتي.
3. The Mediterranean as a border : symbolic order, materialization of bodies and immigration. Caterina Rea (University of Lille, France) quotes Barakat about the racialization of the Mediterranean space. In “ Polis e Psique ” Vol.1, Número Temático, 2011.
4. في نهاية بحثه، سأل عمر مالك « كيف تعود إلى بلدك؟ » « أعود على متن طائرة » ثم سأل من جديد « ألا تعبر الجسر؟ » « الجسر؟ » « جدر البيض » حوار مع هيلين بارتيلو، عالمة اجتماع، رجال وهجرة « عرض الهجرات » رقم 3322 يوليوز شتنبر2018.




