أ. جورج باجاليا
I : وصف الحدود…
في كل سنة خلال فصول الصيف القليلة الماضية يصبح خط السيارات التي تغادر بلدة الفنيدق المغربية نحو ثغر سبتة الإسباني الواقع على بعد حوالي ثلاثة عشر كيلومترا جنوب إسبانيا أطول فأطول. ومنذ الصباح ينتظر الأشخاص الذين يرغبون في عبور الحدود نحو الاتحاد الأوروبي بالسيارة
طوال ساعات في صف سيارات يمر عبر بلدة الفنيدق ويمتد حتى يصل إلى تقاطع موقف سيارات يستعمل في نفس الوقت محطة غير رسمية لسيارات الأجرة. وعلى امتداد عدة أحياء يرى الزائر شبابا مغاربة يبيعون الفواكه الجافة والحلويات الملفوفة في الجرائد الإسبانية القديمة ولوائح سفن نقل الحاويات، بالإضافة إلى نسخ من الاستمارات دخول التراب المغربي أو مغادرته. ولا يختلف المشهد على الجهة الأخرى من الحدود، خصوصا بوجود هذه الفئة من الباعة المتجولين يبيعون بضائعهم مع إغلاق المحلات في سبتة أبوابها مع حلول الظلام وبدء صف السيارات إعاقة الطريق الرسمي الوحيد من الثغر الممتد على مسافة 18.5 كيلومترا مربعا وإليه.
ولا تمثل حركة السيارات هذه سوى جزء من أعداد الناس الذين يعبرون هذا الممر الحدودي كل يوم، وهو ما يقدره بعض المسؤولين بعشرين ألف شخص خلال مواسم العبور (أنظر Ferrer-Gallardo 2008). وهذا الرقم لا يمكن أن يكون أكثر من تقديرات لأسباب متعددة. فبينما يبقى عبور الحدود بالسيارة عملية واضحة جدا، فإن الكثير من هؤلاء العشرين ألف هم مغاربة مقيمون ببلدتي الفنيدق أو بليونش المجاورتين لحدود مدينة سبتة؛ حيث أن الإقامة بهاتين البلدتين تمنح صاحبها بطاقة تعريف خاصة تمنحهم حق عبور الحدود إلى مدينة سبتة ومنها بحرية ودون الحاجة إلى التأشيرة، رغم أنها تمنعهم من الناحية العملية من قضاء الليل فيها للضيافة أو الإقامة المؤقتة. وهؤلاء المغاربة يعبرون الحدود مشيا على الأقدام من خلال مدخل خاص بجانب المحطة الخارجية المخصصة لباقي العابرين؛ بمن فيهم المغاربة وحاملو جواز السفر الأوروبي وأي شخص حامل لتأشيرة الدخول إليه. وفي السيارات يأتي المغاربة المقيمون بالخارج على متن العبارات من إسبانيا قبل الانتظار في شوارع مدينة سبتة ليكملوا رحلتهم عبر شبكة جديدة من الطرق السيارة [sic.] التي تربط مدينة سبتة بمدينة طنجة، ثم إلى مدن كبرى أخرى مثل فاس والرباط والدار البيضاء. وفي الاتجاه الآخر ينتظرون في رحلة العودة إلى « الوطن » الأوروبي، رغم أن الحكومة المغربية تعتبرهم من الناحية القانونية والسياسية مغاربة، وإن كانوا ببساطة يقيمون بالخارج.
وقد لا ينتبه المرء خلال الانتظار في هذا الصف إلى المنطقة الصناعية والتجارية التي بنيت فوق معبر البيوت (Biutz)، حيث وقعت معركة البيوت التي أكسبت الملازم ثاني آنذاك فرانشيسكو فرانكو باهاموندي إعجاب المقاتلين المسلمين والمسيحيين معا سنة 1916، والذين مكنوه لاحقا من القيام بانقلابه العسكري في إسبانيا. وقد نجا فرانكو بأعجوبة من جرح مميت أصيب به في منطقة الحوض خلال معركة البيوت (Battle of Biutz) وهو ما أكسبه لقب ابن سبتة المبارك (أنظر Ellwood 2014). وما تزال آثار فرانكو حاضرة في شوارع مدينة سبتة، حيث ما يزال المتعاطفون مع الفاشية يحيون دون خجل ذكرى الحماية الإسبانية على شمال المغرب. وهذا المكان يبقى منطقة ذات أهمية بالغة بالنسبة لمخيلة كل من الإسبان والمغاربة؛ فهو يمثل بالنسبة للملكية المغربية تذكيرا بتحدي سيادتها الترابية الذي تواجهه في مدينة سبتة وفي الصحراء. واليوم، يحتضن معبر البيوت منطقة تجارية عابرة للحدود تشمل كلا من المغرب وإسبانيا في بنية تبادل تتخطى الحدود الوطنية. وتفتح إعادة هيكلة هذه المنطقة من الناحية الرمزية والسياسية والقانونية للتجار المغاربة والإسبان معا باب الدخول إلى مجموعة من مخازن السلع المستوردة دون رسوم من الاتحاد الأوروبي، حيث تباع وتُحمل في الأكياس نحو المغرب من أجل إعادة توزيعها في باقي مناطق البلاد. أنظر :
(Casas-Cortes, Cobarrubias and Pickles 2013; Ferrer-Gallardo 2011)
وفي معبر البيوت تتجلى طرق عمل هذه الحدود بكل وضوح. فهنا يمر الجزء الأكبر من العشرين ألف عابر، المذكورين أعلاه، مرارا وتكرارا؛ دون حتى أن يغادره بعضهم. وباستعمال بطاقة التعريف المذكورة يدخل المغاربة القاطنون ببلدتي بليونش والفنيدق إلى هذه المنطقة مباشرة من خلال صف مختلف يوجد على قمة التل ليتجولوا بين مختلف المحلات ويعودوا بعدها إلى المغرب محملين بحزمات البضائع المرتبة، حيث يبيعونها بالجملة مباشرة إلى موزعين أكبر. وتعمل وحدة تدخل الشرطة،
وهي وحدة خاصة في الشرطة الإسبانية، مدربة على تقنيات مكافحة الشغب، على تنظيم حركة العابرين في هذا الممر بتنسيق مع الدرك الملكي المغربي. وبينما يقوم رجال الدرك الملكي تقريبا بكل مهام تنظيم الحدود على الجانب المغربي، تقوم وحدة تدخل الشرطة على الجانب الإسباني بتنظيم المستودع التجاري، بينما ينظم الحرس المدني حركة المرور الاعتيادية من مدينة سبتة وإليها، وتنظم الشرطة البلدية حركة المرور في المدينة.
وقد بدأ تقسيم العمل هذا بين فرق المراقبة والتنظيم وإدارة الحدود في الانهيار مؤخرا، مؤديا
إلى الصفوف الممتدة على طول كيلومترات كما ذكرنا أعلاه.
وهذا راجع في جزء منه إلى المجموعات الكبيرة من الأشخاص الذين يحاولون تسلق السياج الحدودي من المغرب في اتجاه الأراضي الإسبانية غير بعيد عن منطقة بيوت. ورغم أن عمر هذه المحاولات يبلغ عقدين من الزمن (أنظر Gold 2000)، إلا أن الأعداد المتزايدة من المهاجرين القادمين من مختلف
دول غرب إفريقيا مثل الكاميرون وغامبيا وغينيا بيساو ومالي ونيجيريا والسنغال يشوشون على عمليات المرور التقليدية في هذا المعبر (أنظر BBC News 2017; Bilefsky 2017). وهؤلاء المهاجرون المحتملون يرغمون رجال الشرطة المغاربة والإسبان على مغادرة مواقع عملهم من أجل محاولة صد واعتقال المهاجرين الذين يصبحون طالبي لجوء رسميين ما إن تطأ أقدامهم التراب الإسباني. وقد أصبح فصل الصيف تحت أشعة شمس سواحل شمال إفريقيا يعني مشاكل أكثر وصفوف انتظار أطول على جانبي هذه الحدود. وكما لا يظهر مثل هؤلاء المهاجرين فجأة في قوارب في عرض البحر فإنهم لا يظهرون فجأة فوق السياج الحدودي الإسباني.
هنا يقضي الكثيرون من المهاجرين سنوات -إن لم يكن عقودا- من الانتظار في المغرب، بينما يشتغلون ويحاولون مرارا وتكرارا عبور السياج الحدودي. ويقوم الكثير من المهاجرين من غرب إفريقيا بالعمل في مجال البناء، حيث يقومون ببناء الوحدات السكنية لصالح المغاربة المقيمين بالخارج ويعيشون في المنازل في طور البناء من خلال دفع الإيجار لمديري مشاريع البناء المغاربة. ولا يشتكي هؤلاء من نقص فرص الشغل من هذا النوع بفضل مشاريع تطوير البنيات التحتية على طول الشريط الساحلي الممتد لما يقارب خمسين كيلومترا بين مدينتي طنجة وسبتة. وتعتمد مشاريع بناء الموانئ التجارية الجديدة والعمارات السكنية والمراكز التجارية والمنتجعات السياحية الشاطئية المصممة لخدمة زوار الشواطئ المتوسطية المغربية، بالإضافة إلى عمليات بيع السلع القادمة من مدينة سبتة وتوزيعها على اليد العاملة بشكل كبير. وهؤلاء المهاجرون لا يشكلون خزان اليد العاملة بالنسبة لأوروبا كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين (أنظر Feldman 2011; Mezzadra and Neilson 2013) بقدر ما يشكلون القوة العاملة الحية التي تعتمد عليها جميع تدفقات المهاجرين التي تحرك العمليات الأمنية على الحدود المغربية الإسبانية.
II : (وصف الحدود)… باعتبارها منهجا
يحذر إيتيان باليبار في مقاله « ما هي الحدود؟ » من أن « المُنَظّر الذي يحاول تعريف الحدود يبقى في خطر السقوط داخل حلقة مفرغة، لأن تمثيل الحدود يبقى في حد ذاته شرطا سابقا لأي تعريف » (أنظر Balibar 2002). وردا على هذا التحذير قام ساندرو ميزاندرا وبريت نيلسون بتطوير نظرية للحدود باعتبارها منهجا و إبستيمولوجيا (أنظر Mezzadra and Neilson 2013). وهنا يقترحان أن أي دراسة « للحدود » باعتبارها موضوع البحث يجب أن تفهم الحدود أيضا باعتبارها أداة ينبع من خلالها كل من الموضوع المدروس والذات الدارسة معا.
وذلك يتطلب وجهة نظر تحليلية تجاه عملية تكوين الموضوع والذات مقابل الحدود مع
المحافظة على علاقة مفتوحة بين البحث التجريبي والمفاهيم المستعملة في وصفه (أنظر Mezzadra and Neilson 2013 ص : 17). وتدفع ساره غرين في مراجعتها للبحوث الأنثروبولوجية حول أوروبا وحدودها نحو فكرة توسعية عن دراسات الحدود قائلة : « لقد استنتجنا أن طريقة تحول الأرض تحت أقدام الناس لا تقل أهمية عن طريقة تحرك الناس أنفسهم من مكان لآخر أو طريقة تشكيل الناس لهويات ذات طابع سياسي في علاقتهم مع الأرض » (أنظر Green2013). ورغم أن ساره غرين تكتب بشكل خاص عن إعادة رسم حدود الأراضي في أوروبا الشرقية بعد الاشتراكية مثل يوغوسلافيا السابقة، فإن منظورها هذا يبقى وازنا بشكل أوسع في السياق المتوسطي.
وفي الأنثروبولوجيا تشكل الحدود بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك موقعا مهما لعمل علم الأعراق في الأراضي الحدودية. وتوضح ساره غرين من خلال التفاعل النقدي مع عمل روبرت ألفاريز حول هذه الحدود كيف بدأت دراسات الحدود الحالية من خلال تحدي أفكار الوحدات الثقافية الثابتة على جانبي الحدود المكسيكية الأمريكية، قبل تطويرها إلى مستوى نموذج كوني، ومن ثم التخلي عنه لصالح البحث في ما يجعل الحدود تتشكل من البداية (أنظر Alvarez 1995; 1999; 2012). وقد تبعت دراسات الحدود في شمال المغرب مسارا مماثلا، محاولة الحفاظ على التوازن بين تقاليد البحث المحلية من جهة، والتحليل الكوني البارز من جهة ثانية (أنظر Andersson 2014; Casas-Cortes, Cobarrubias, and Pickles 2013; Driessen 1992; Ferrer-Gallardo 2008; Gold 2000; Mcmurray 2000; Rosander 1991). ونستنتج من خلال قراءة مراجعة سارة غرين أن دراسات الحدود قد بقيت عالقة بين الإشارة إلى موضوع مهم جدا حول العالم وجهل ما يمكن القيام به تجاهه. وبعبارة أخرى فإن الباحثين في حقل الحدود يواجهون أحيانا مشاكل في رؤية ما وراء الارتباك الذي تسببه الحدود للقوى العظمى من أجل رؤية التحولات الاجتماعية والمادية والخطابية التي تحدث على مختلف جوانب الحدود، سواء كانت هذه القوى الولايات المتحدة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبي.
كما حاولت بعض الدراسات الأخرى تحويل الاهتمام من موضوع الحدود إلى موضوع الهجرة، موضحة طرق عمل « جهاز الهجرة » الذي يشتغل كليا من خلال الإقصاء. وقد أخذ علماء الأنثروبولوجيا فكرة « الجهاز » عن ميشيل فوكو (مقابله في اللغة الفرنسية « dispositif » في مقابل فكرة لويس ألثوسير « appareil » التي تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية بكلمة جهاز « apparatus ») لمناقشة موضوع الهجرة، خاصة بين أوروبا ومستعمراتها السابقة. وقد أنتجت هذه الدراسات عددا مهما من البحوث حول الحكامة الأوروبية وإنتاج ما يسمى « أوروبا الحصن » (أنظر Agier 2011; Fassin 2011; Feldman 2011). إن مؤسسات الاتحاد الأوروبي كما يظهر هؤلاء الباحثون تستعمل لغة حقوق الإنسان والمساواة الاقتصادية والتنمية الخارجية من أجل تبرير الاستثمار الخارجي المباشر ذي الطابع الاستعماري الجديد (نيوكولونيالي) وتوسيع حجم الرأسمال، محافِظة في الوقت ذاته على قوة عاملة احتياطية يمكن فتح الباب أمامها متى احتاجت أوروبا لذلك، مع إبقاءها خارج التراب الأوروبي إلى أن يحين وقت استدعائها. وكما توضح بريندا شافلين في كتابها الإثنوغرافي عن أنظمة الجمارك العالمية والمسؤولين الذين لا ينفذون هذه القوانين في غانا، فإن تنظيم الهجرة يبقى واحدة من الكثير من العمليات التي يقومون بها على الحدود (أنظر Chalfin 2010). وهي عملية تتزامن مع العمليات اليومية المتمثلة في رسم الحدود والتفاوض بشأنها؛ والتي تحدث يوميا في نقاط المراقبة والموانئ والأبناك وبنايات المكاتب ومحلات التوزيع، وهي بالكاد تعتبر محددا لأي من هذه العمليات. ويجدر هنا التذكير بأن الجزء الأكبر من عملية الهجرة يحدث داخل إفريقيا بوقت طويل قبل دخول الحدود الأوروبية في الصورة.
إن اقتراح ميزاندرا ونيلسون الذي يرى أن الحدود :
1: تشتغل من خلال الاحتضان والإقصاء (أنظر Mezzadra and Neilson 2013 ص : 15).
2: تنتج كلاًّ من الذات والموضوع اللّذيْنِ ينتشران وفقا « لإيقاعات العبور المتفاوتة في الزمن والطول والسرعة » (أنظر Mezzadra and Neilson 2013
ص : 148). 3: يجب فهمها من خلال حدود متباينة ومتعددة المعاني قد تظهر بشكل بارز في صورة المخيم أو الجدار، ولكنها تشتغل في الواقع بشكل يتجاوز هذه الأبعاد الممثلة بكثير (أنظر نفس المرجع أعلاه، ص:4)، كما تنتقد سارة غرين هذا التركيز على الهجرة في دراسات الحدود، ملفتة النظر إلى أن هذه الدراسات عادة ما تترك الحدود ذاتها دون دراسة (أنظر Green 2013 ص : 349).
إن التعامل مع هذه الانتقادات يقتضي تحديد الأنظمة البنيوية التي تشتغل في العمليات الحدودية بما فيها أشكال التقسيم الإنتاجي التي تميزها.
III : (وصف الحدود)… باعتبارها بنية تحتية (infrastructure)
لقد ظهرت الكثير من تعاريف البنية التحتية خلال العقد الأخير، حيث ينظر كل واحد منها لدور التقسيم (breakdown) بشكل مختلف قليلا عن الآخرين. فبراين لاركين يشير في مقاله المؤثر حول دراسات البنية التحتية في حقل الأنثروبولوجيا إلى الحاجة إلى دمج الأنظمة الكبرى التي تيسر التدفق والتبادل من خلال أنظمة البنية التحتية، معتبرا أن التقسيم لا يمثل الصيغة التي تظهر البنية التحتية من خلالها فقط، بل أنه يبقى ضروريا لعملياتها (أنظر Larkin 2013). كما يناقش لاركين أن البنيات التحتية هي أنظمة رموز مادية وأدوات جمالية موجهة نحو عناوين معينة. وبهذا تكون أغراضا تقنية مادية تشغل وظيفة قنوات للعلاقات بين الأشياء والمواضيع والذوات وبيئاتها المحيطة (أنظر المرجع أعلاه، ص : 335-337). وفي حالة الحدود فقد نتسائل عمن تُوجَّه نحوهم. كما قد نتساءل
عن موقعها. وقد يبدوا الجدار الفاصل – أو سياجاته المتعددة وكواشفه التي تشتغل بالأشعة تحت الحمراء وأبراج المراقبة – موجها نحو مجموعة معينة من المهاجرين دون غيرها، كما قد يبدوا موجها نحو جمهور يبدوا غائبا تماما عن الحدود، طالبا منهم إبقاء مسافة فاصلة من خلال عبارة ضمنية مفادها أن « لا تفكر حتى في محاولة عبور الحد » أو « لا تقلق، فكل هذا جد إنساني ومحصن قليلا ».
وبمعنى آخر فإن البنيات التحتية تمثل شبكات تتيح عيش نمط حياة معين وتنظم الحياة الاجتماعية وفقا للميزات المادية لنظام رموز عوض ما يحيل عليه (أنظر Larkin 2013 ص : 334). وهذا المعنى الشعري للبنية التحتية يساعد مثلا على توضيح أنواع الحياة الاجتماعية التي تنشأ في محيط نقاط المراقبة في فلسطين (أنظر Tawil-Souri 2011) أو في محطة نقل في ساحل العاج (أنظر Simone 2004). فنقطة التفتيش في قلنديا بين رام الله والقدس، وهو موقع كان في الماضي مطارا دوليا، أصبح الآن نقطة تفتيش عسكرية بشعة بين الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة. وهنا تستعمل الكراسي الخشبية في البيع بالتجوال بدل الجلوس، على الأقل إلى أن يطير الغاز المسيل للدموع أو يلعلع الرصاص في المكان، ثم هناك الملاجئ المبنية في أماكن استراتيجية. أما في محطة أبيدجان فهناك كما يناقش أبومالك سيمون شبكات من الشباب تشكل كوكبات من العلاقات الاجتماعية وتعيد تشكيلها مثل « الموجهين وعمال الشحن والإفراغ وبائعي التذاكر والباعة المتجولين والسائقين وعمال ضخ البنزين والميكانيكيين، » محاولين « استخراج أكبر قدر من النتائج من أقل كمية من العناصر » (أنظر Simone 2004، ص : 410-411).
ويقدم سيمون في نفس المقال بشكل أوسع مثال أحياء الجزء الداخلي من مدينة جوهانسبورغ من أجل تحديد مفهوم « الناس باعتبارهم بنية تحتية ». فالحاجات المادية والرغبات وفئات المهارات التي تلتقي في هذه الأحياء تشكل، كما في أبيدجان، مجموعة من العادات والمبادلات التحولية التي تبقى غير مرئية بشكل كبير في مخططات الانتماء الحكومية والترابية (أنظر المرجع نفسه، ص : 419). وتبقى أطروحة سيمون عن الناس باعتبارهم بنية تحتية أكثر شمولا من دراسات البنية التحتية الأخرى التي تطرح أن بنيات تحتية خفية تظهر من خلال عمليات التقسيم (أنظر Graham and Thrift 2007; Star 1999). ويبقى أن على التقسيم كما يرى غراهام وثريفت أن لا يعتبر شاذا عن المألوف، بل أن يكون لصيق تدفق البنية التحتية (أنظر Graham and Thrift 2007 ص : 5). ومن هذا المنظور فإن البيع الجوال وتجميع الركاب والتشاجر مع الشرطة تبقى ممارسات ملازمة للبنيات التحتية للحدود من الجدار إلى غاية نهاية صف الانتظار، حتى وإن انتهى الصف في مقر الجمارك وسط مدينة سبتة أو في موقع بناء في مدينة طنجة.
وبهذا المعنى فإن الحدود عبارة عن شبكة بنيات تحتية تكيِّف الذوات والمواضيع في علاقة مع الأمزجة المؤقتة لتدفقاتها، أو أنها عبارة عن شبكة من البنيات التحتية العلائقية التي تستتبع عقد الزمكان حول مجموعة مبادلات قد تنطوي على عبور حدود دولية وقد لا تفعل. ويجلب كل من ميزاندرا ونيلسون إلى انتباهنا أن الطرق المتباينة في إدارة الحدود من قبيل أخذ البصمات وعصي رجال الشرطة والحواجز والصفوف « السريعة » وصفارات إنذار الحريق والحاويات المفحوصة مسبقا ومناطق البيع خارج قضاء الجمارك كلها مصممة بطريقة أو بأخرى لتسريع تدفق الحدود أو إبطائه. ويخلق خلع امتياز المكان في دراسات الحدود نقاشات حول كيفية تفاعل طرق إدارة الوقت هذه مع « التجارب والممارسات الذاتية لخلق التنافر والتداخلات والمعيقات » الذين يتردد صداهم أبعد من زمان ومكان عبور الحدود (أنظر Mezzadra and Neilson 2013 ص : 133). ومثلما أن من الواجب عدم استنتاج التقسيم من عمليات البنية التحتية العادية فإن هذه المعيقات تبقى عملية في نطاق تدبير الحدود في حد ذاتها.
وفي وسط هذا الكم من التعريفات والمصطلحات والاختصارات والتعابير الطنانة التي تعج بها نقاشات الهجرة والحدود اليوم، يبقى من المهم جدا تناول مفهوم ‘تغيير المكان’ بطريقة تتجاوز الخطاب الأكاديمي في نقاش تدفق الهجرة في المنطقة المتوسطية كما في أماكن أخرى. إن من المفيد من المنظور التحليلي طبعا دراسة ظاهرة ما والعمل الذي يأخذ الباحثون على عاتقهم القيام به والحقل الاجتماعي حيث تقع هذه الظاهرة، غير أن من اللازم أكثر تجاوز هذه المقاربة الكمية لصالح التركيز على إدارة الحياة اليومية في المناطق الحدودية التي تُخضِع سكانها والمقيمين بها لسطوة المصطلحات التي تعتمد على المكان الذي يأتي منه أحدهم والمكان الذي يقصده. وهذا يعني إعادة بناء معجم يقوم على العادات والكلمات المشفرة والأسماء والتصرفات التي تتراكم طوال الوقت الذي يقضيه المرء على الحدود في تجاوز لبنيتها التحتية المادية. وهذا الوقت الذي يقضيه المرء في الانتظار، مثل فكرة ‘التحول’ (liminality) للباحث الأنثروبولوجي فيكتور تيرنر (أنظر Turner 1969) تنتج ما يُسميه ‘الجماعات’ (communitas). فبالنسبة إلى فيكتور تيرنر، تبقى هذه المشاعر الجماعية جزءا لا يتجزأ من المواقع الحدّية سواء في الطقوس أو في الاعتقادات الألفوية الأخروية (eschatological millenarianism).
غير أن إقامة العلاقة بين وقت الانتظار والحركة في المكان تسمح بظهور طرق انتماء جديدة واختلافات لا تُكيّفها لحظة تحرك صف الانتظار أو عبور شخص ما للحدود (بطريقة تخريبية أو بغيرها). ومثل الآثار المنتِجة للتقسيم على البنيات التحتية المادية فإن لآثار وقت الانتظار على الحدود نتائج تعيد تنظيم الحياة الاجتماعية والإمكانات السياسية بطرق أطول وأهم، بغض النظر عن وقت بداية حدث الهجرة في المكان أو نهايته.
Notes:
Agier, Michel. 2011. Managing the Undesirables : Refugee Camps and Humanitarian Government. Malden, MA : Polity. . Alvarez, Robert R. 1995. « The Mexican-Us Border : The Making of an Anthropology of Borderlands ». Annual Review of Anthropology 24: 447–70. . 1999. « Toward an Anthropology of Borderlands : The Mexican-U.S. Border and the Crossing of the 21st Century ». In Frontiers and Borderlands : Anthropological Perspectives, edited by Michael Rösler and Tobias Wendl, 225–38. New York : Peter Lang. . 2012. « Reconceptualizing the Space of the Mexico–US Borderline ». In A Companion to Border Studies, edited by Thomas M. Wilson and Hastings Donnan, 538–56. John Wiley & Sons, Ltd. https ://doi.org/10.1002/9781118255223.ch31. . Andersson, Ruben. 2014. Illegality, Inc. : Clandestine Migration and the Business of Bordering Europe. Oakland, California : University of California Press. . Balibar, Etienne. 2002. Politics and the Other Scene. Verso. . BBC News. 2017. « Migrants Storm Border Fence in Spanish Enclave of Ceuta, » January 1, 2017, sec. Europe. http://www.bbc.com/news/world-europe-38486584. . Bilefsky, Dan. 2017. « More Migrants Storm Fence to Enter Ceuta, Spanish Enclave in Africa ». The New York Times, February 20, 2017. https://www.nytimes.com/2017/02/20/world/europe/ceuta-morocco-border-migrants.html. . Casas-Cortes, Maribel, Sebastian Cobarrubias, and John Pickles. 2013. « Re-Bordering the Neighbourhood : Europe’s Emerging Geographies of Non-Accession Integration ». European Urban and Regional Studies 20 (1): 37–58. https://doi.org/10.1177/0969776411434848. . Chalfin, Brenda. 2010. Neoliberal Frontiers : An Ethnography of Sovereignty in West Africa. Chicago : University of Chicago Press. . Driessen, Henk. 1992. On the Spanish-Moroccan Frontier : A Study in Ritual, Power, and Ethnicity. New York : BERG : Distributed exclusively in the U.S. and Canada by St. Martin’s Press. . Ellwood, Sheelagh M. 2014. Franco. Routledge. . Fassin, Didier. 2011. « Policing Borders, Producing Boundaries. The Governmentality of Immigration in Dark Times ». Annual Review of Anthropology 40 (1): 213–26. https://doi.org/10.1146/annurev-anthro-081309-145847. . Feldman, Gregory. 2011. The Migration Apparatus : Security, Labor, and Policymaking in the European Union. Stanford, California : Stanford University Press. . Ferrer-Gallardo, Xavier. 2008. « The Spanish–Moroccan Border Complex : Processes of Geopolitical, Functional and Symbolic Rebordering ». Political Geography 27 (3): 301–21. https://doi.org/10.1016/j.polgeo.2007.12.004. . 2011. « Territorial (dis)continuity dynamics between Ceuta and Morocco : conflictual fortification vis-à-vis co-operative interaction at the EU border in Africa :territorial (dis)continuity dynamics between Ceuta and Morocco ». Tijdschrift Voor Economische En Sociale Geografie 102 (1): 24–38. https://doi.org/10.1111/j.1467-9663.2009.00575.x. . Gold, Peter. 2000. Europe or Africa? A Contemporary Study of the Spanish North African Enclaves of Ceuta and Melilla. Liverpool : Liverpool University Press. . Graham, Stephen, and Nigel Thrift. 2007. « Out of Order Understanding Repair and Maintenance ». Theory, Culture & Society 24 (3): 1–25. https://doi.org/10.1177/0263276407075954. . Green, Sarah. 2013. « Borders and the Relocation of Europe ». Annual Review of Anthropology 42 (1): 345–61. https://doi.org/10.1146/annurev-anthro-092412-155457. . Larkin, Brian. 2013. « The Politics and Poetics of Infrastructure ». Annual Review of Anthropology 42 (1): 327–43. https://doi.org/10.1146/annurev-anthro-092412-155522. . Mcmurray, David. 2000. In and Out of Morocco : Smuggling and Migration in a Frontier Boomtown. 1 edition. Minneapolis : Univ Of Minnesota Press. . Mezzadra, Sandro, and Brett Neilson. 2013. Border As Method, or, the Multiplication of Labor. Duke University Press. . Rosander, Eva Evers. 1991. Women in a Borderland : Managing Muslim Identity Where Morocco Meets Spain. Stockholm : Dept. of Social Anthropology, Stockholm University. . Simone, A. M. 2004. « People as Infrastructure : Intersecting Fragments in Johannesburg ». Public Culture 16 (3): 407–29. . Star, Susan Leigh. 1999. « The Ethnography of Infrastructure ». American Behavioral Scientist 43 (3): 377–91. https://doi.org/10.1177/00027649921955326. . Tawil-Souri, Helga. 2011. « Qalandia Checkpoint as Space and Nonplace ». Space and Culture 14 (1): 4–26. https://doi.org/10.1177/1206331210389260. . Turner, Victor W. 1969. The Ritual Process : Structure and Anti-Structure. Chicago : Aldine Pub. Co.